أثار تقرير صادر عن الأمم المتحدة في العام 2009 حفيظة الدول العربية اذ اظهر التقرير أنّ ثلث العرب أميون ولا يتجاوز الأنفاق على البحث العلمي للشخص الواحد 10 دولارات أميركية، وخلص التقرير إلى نتيجة أنّ مستوى التعليم والبحث والابتكار في العالم العربي مروّع. التقرير صدر في إطار شراكة بين برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ودولة الامارات العربية المتحدة ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، وأظهر أن مشاركة العالم العربي في المنشورات العلمية العالمية لا تتجاوز 1.1 % من المشاركات. فماذا تغير بين العام 2009 واليوم؟ وهل ساهمت الجهود التي تبذلها الحكومات العربية في تغيير هذا الواقع واثبات الوجود العربي على ساحة الابتكار عالمياً؟ في هذا التحقيق نسلط الضوء على الابتكار في العالم العربي، والمعوقات التي تؤدي إلى التخلف عن ركب الدول المتطورة في هذا المجال.
إن ما توفره دول العالم الثالث من إمكانات مادية وبشرية لدعم نشاط البحث والابتكار محدود جداً ولا يمكن موازنته بما هو عليه في الدول المتقدمة، وليس أدل على ذلك من النتائج التي يتم تحقيقها في دول العالم الثالث والتي يتمثل بعضها في قلة براءات الاختراع والامتيازات. ولعل من أهم أسباب هذا التقصير افتقار مناهج التعليم وأساليب التربية في دول العالم الثالث إلى القدرة على تنمية روح التنافس ين الأفراد، تنمية الخبرات والطاقات الإبداعية، احتضان المواهب ورعايتها والتحفيز على العمل الجماعي.
ويلاحظ أن برامج التدريب التي تتبناها مؤسسات هذه الدول مستوردة، غالباً لا تتناسب مع متطلبات التطور التقني السريع وما يتطلبّه من عناصر الابتكار والإبداع، يضاف إلى ذلك عدم توافر الأموال الكافية للبحوث وندرة الأجهزة والأدوات التقنية والمختبرات والمراجع اللازمة.
هذا يؤدي إلى هجرة الأدمغة العربية واليد العاملة التقنية لاسيما أن هذه الأدمغة تلقى التشجيع المادي والمعنوي في الخارج وتتوافر لها البيئة المناسبة لتطوير معارفها وتحقيق طموحاتها العلمية.
ومع ذلك يبدو أن العالم المتقدم يشهد مؤخراً انخفاضاً في نمو الدعم العام لأنشطة البحث والتطوير وتردد الشركات في الإنفاق عليهما، وهذا يؤدي إلى تباطؤ نمو مجمل النفقات المخصصة للبحث والتطوير في شتى أرجاء العالم، وذلك يُلاحظ بشكل خاص في البلدان المرتفعة الدخل.
وعلى الرغم من قيام حكومات هذه الدول في ادراج عدد كبير من مشاريع النمو المستقبلية ذات الصلة بالابتكار في حزمات تحفيزية، فإن الدعم المخصص لتلك الجهود فقد من زخمه في بعض البلدان. ولكن من المؤكد أن معظم البلدان حققت خلال العامين 2014 و2015 نمواً ايجابياً فيما يخص الإنفاق العام على البحث والتطوير خصوصاً دول شرق آسيا، لا سيما الصين، كوريا والهند. هذا ويعتبر العنصر البشري هو نقطة الأساس في عملية الابتكار في الاقتصادات ذات الدخل المرتفع وليس في الاقتصادات ذات الدخل المنخفض، فمن المرجح أن يكون المواطن، الذي يتمتع بتعليم أفضل، أكثر نجاحاً في الاقتصادات ذات الدخل المرتفع خاصة من ناحية الاستفادة من الظروف المواتية لتطوير الابتكار. إن المواطنين الذين يتمتعون بمستوى تعليمي جيد يحرزون نجاحات أكبر في الاقتصادات المرتفعة الدخل من حيث الاستفادة من السياقات المساعدة على دفع الابتكار. ومع تقدم البلدان نحو مستوى أكثر نضجاً في مؤشر الابتكار تزداد أهمية المواهب التي تمتلكها في مجالات العلوم والهندسة والأعمال والإدارة.
ففي الوقت الذي يتطور فيه البلد نحو مستوى أفضل وأكثر نضوجاً من التطور والابتكار، تصبح المواهب فيه (العلوم والهندسة، الأعمال التجارية والإدارة) أكثر أهمية.
الابتكار في العالم العربي
في العالم العربي وعلى مدى السنوات الـ 40 الماضية، تمّ إنفاق 20 ٪ من الميزانيات الوطنية على التعليم، ومع ذلك يزيد عدد البالغين غير القادرين على القراءة عن ثلث سكان العالم العربي، ويبلغ عدد الاميين في العالم العربي حوالي 60 مليوناً من أصل 370 مليون مواطن عربي، ثلثهم من النساء.
مع ذلك، يبدو أن مفهوم التعليم في العصر الحالي قد تغير من مجرد علم يتلقاه الطالب أيا كانت مرحلته الدراسية، إلى معرفة تعتبر هي الركيزة الأساسية. ويحتاج إنتاج المعرفة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى جهود كبيرة تمكن المجتمعات من الاستفادة منها في تنمية القدرات والانتاجية.
ويعتبر التعليم الجامعي أحد أهم معايير تقدم الأمم والشعوب وبمقدار عدد الحاصلين على المؤهل الجامعي يرتقي المجتمع، وتكمن أهميته أيضا في تأهيله للعديد من الشباب معرفيا وعلميا، حتى يكونوا قادرين على الانخراط في سوق العمل. ولذلك تغدق الدول المتقدمة في الإنفاق على التعليم وتزيد سنويا نسبة تمويل البحوث بما يمكن المؤسسات العلمية كالجامعات ومراكز البحوث من أداء دورها في تطوير المجتمع وتنميته.
إذا نظرنا إلى مؤسساتنا العربية نجدها تواجه الكثير من العقبات التي لا تؤهلها للتحول إلى مراكز قوة ودفع، ربما بسبب نقص الميزانيات أو الاهتمام الرسمي، ولذلك نرى جامعاتنا العربية خارج التصنيف العالمي لأفضل الجامعات. وتتلخص الإشكالية في غياب البيئة والبنية التحتية العلمية الجيدة، وهي تعاني من إشكاليات تدبيرية أبرزها ضعف الموارد، ويستوجب عليها التوجه نحو مهام جديدة تتعلق أساساً بالتعاقد على الأبحاث، تطوير بنى الابتكار والتشجيع على الاختراع، ناهيك عن تقديم الاستشارات والخبرات، بالإضافة إلى استدعاء العقول العربية المهاجرة والاستفادة من خدماتها.
هذا كله يقود إلى إلقاء نظرة على الميزانيات المرتبطة بالجامعات الخاصة والرسمية، وزارات التعليم العالي والمجالس الوطنية للبحوث في العالم العربي، والتي لم ترتقِ بعد لمستوى الحاجات التي يتطلّبها البحث العلمي، الذي يحتاج إلى دعم القطاع الخاص.
ويعاني قطاع الابتكار من مشاكل جمة في أغلب البلدان العربية، لعل أبرزها وجود فجوة كبيرة بين البحوث التي تجرى في الجامعات والمراكز البحثية، وبين تطبيق هذه الابحاث في المجالات المتخصصة.
هذا يدفع الحكومات إلى استيراد التكنولوجيا والحلول الجاهزة من الغرب، عوضا عن ربط الصلة بين مراكز البحث في البلدان العربية والحاجات الصناعية أو التكنولوجية.
إن اختلاف الظروف والخصوصيات بين الغرب والدول العربية قد يجعل نجاح استيراد التكنولوجيا غير مضمون النتائج نظراً لعدم الالمام بالمتغيّرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للبلدان المستهدفة.
وذكرت أبحاث غير رسمية أن الجامعات التي تجري أبحاثاً علمية جديّة لا يتجاوز عددها أصابع اليدين، وإن أقلّ من 10% من الأساتذة هم باحثون، يخصّصون بين 1 و2% من وقتهم لذلك نظراً لغياب الدعم المادي والتقني لذلك.
لذا يرى عدد كبير من الخبراء أن التعليم العربي بحاجة إلى انتفاضة ذهنية ترسم خريطة طريق للبحث العلمي، وتنقله من التلقين إلى الابتكار، إذ يلاحظ من الجهة المقابلة أن الأموال التي تعتمدها الدول المتطورة لتمويل البحوث العلمية تكفي لمعرفة الفارق الكبير في الاهتمام بين عالمنا العربي والعالم الغربي.
لكن السؤال المهم ماذا قدمت حكوماتنا لتطوير البحث العلمي؟ وهل نحن مستعدون للدخول في مسيرة الابتكار وثورة التكنولوجيا وتدفق المعلومات؟
تخصص الدول العربية فقط 0.4 % من الناتج المحلي الإجمالي للبحث والتطوير، وبذلك تساهم بنسبة ضئيلة لا تتجاوز 0.5% من الإنفاق الاجمالي العالمي على البحث والتطوير، بما مجموعه 7 مليارات دولار، حسب تقرير منظمة اليونيسكو عن العلوم للعام 2014.
ويلاحظ وجود هدر مالي لمخصصات البحث والتطوير في العالم العربي، حيث تُصرف على شكل رواتب للأساتذة الباحثين من دون ربطها بالإنتاج العلمي.
وفي هذا السياق، تمثل قلة الباحثين أحد أوجه القصور في التركيبة المعرفية العربية، فعددهم محدود في مليون ونصف مليون باحث، بما يقارب 400 باحث لكل مليون نسمة. وينفق على الباحث العربي ما يعادل 40000 دولار مقابل 200000 دولار للباحثين بالدول المتقدمة و120000 دولار بالدول النامية. وعلى هذا الأساس، نسجل قلة في المنشورات العلمية العربية التي وقفت عند سقف 14235 منشوراً في العام 2014، بما يمثل 1.56% من المجموع العالمي للمنشورات العلمية، وكذلك ندرة في براءات الاختراع، فلم يسجل العالم العربي سوى321 براءة اختراع من أصل 210977 براءة اختراع مسجلة لدى المنظمة الدولية للملكية الفكرية.
الابتكار الاقتصادي
الابتكار (innovation) في مجال الاقتصاد والأعمال عملية مبدعة تؤدي إلى إيجاد فكرة جديدة ووضعها موضع التطبيق. وعلى هذا فالابتكار يعني استخدام أو استحداث فكرة جديدة أو أسلوب جديد، أو استحداث نظرية أو اختراع أو طريقة جديدة في إنتاج سلعة جديدة. ويحدث الابتكار عندما يحاول الفرد البحث والإجابة عن الكثير من التساؤلات التي تخرج عن المألوف أو التي لم يتم بحثها من قبل، مما ينتج منه نوع من المحاكاة والتفكير المتميزين.
وتتعدد أوجه الابتكار وتختلف أشكاله، وهو يتضمن عادة أحد الأمور التالية:
- ابتكار منتجات أو مواد جديدة وتصريفها في الأسواق بعد أن تتم حمايتها بالعلامات المميزة وبراءات الاختراع أو بمنح الامتيازات. وتظهر هذه الابتكارات نتيجة لاستجابة لتغيرات طبيعة الطلب ونوعيته في الأسواق وتغير سلوكيات المستهلك. كما تؤدي المنافسة إلى ابتكار مواد ومنتجات جديدة.
- ابتكار التقنيات التي تساعد على تطوير الأجهزة والآلات والأدوات وما يرافقها من ابتكار في طرائق النقل والتوزيع والتجميع والتصنيع المؤدية إلى زيادة الإنتاجية ونتطور الفكر البشري من جيل لآخر والحاجة إلى السرعة في الحصول على المعلومات.
- الابتكار التنظيمي وهو القدرة على إعادة الهياكل التنظيمية والإدارية والإجرائية والعمل بها بحيث تستطيع هذه الهياكل الاستجابة لتغيرات البيئة المحيطة ولا سيما الابتكارات التقنية منها
- ابتكار في الأداء والسلوك الإداري كما في ابتكار تقنيات جديدة، وطرائق تدريب حديثة وابتكار الحلول الفريدة لبعض المشكلات الإنسانية والمادية التي تعاني منها المؤسسة وتطبيق هذه الحلول.
نموذج دولة الامارات العربية المتحدة
في العام 2014 احتلت الإمارات، المرتبة الأولى بين دول الشرق الأوسط من حيث أداءها الشامل في مؤشر الابتكار العالمي، الذي نشرته جامعة كورنيل بالتعاون مع “إنسياد” (INSEAD)، والمنظمة العالمية لحقوق الملكية الفكرية (WIPO) التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، وذلك من أصل 143 دولة مشاركة، حيث تم استعراض 143 اقتصاد من جميع أرجاء العالم باستخدام 81 مؤشراً لقياس قدراتها الابتكارية.
ولم تقف دول الإمارات عند هذه النتيجة، بل سعت إلى تكريس موقعها في هذا المجال من خلال تأسيسها وكالة الإمارات للفضاء وأول مشروع عربي إسلامي لإرسال مسبار لكوكب المريخ بالإضافة لمشاريع ضخمة تستثمر الحكومة الإماراتية فيها لتحويل التعليم إلى تعليم ذكي قائم على الإبداع والابتكار، وامتلاك الإمارات مجمعات للإبداع في مجالات الإنترنت والإعلام والطاقة المتجددة والصناعات، إذ أن الاقتصاد الإماراتي بات قائماً على المعرفة والابتكار، والبنية التقنية التحتية فيها هي بين الأفضل عالمياً.
واستطاعت دولة الإمارات خلق البيئة المناسبة للابتكار والإبداع من خلال جذب العقول والمواهب، إذ بينت دراسات محلية ودولية أن دول الإمارات تحتل المرتبة الأولى عالمياً من حيث هجرة المواهب والعقول إليها.
لا تعليقات حتى الآن.
كن أول شخص يترك تعليقا.